بسم الله الرحمن الرحيم
{الۤـمۤ }* { ذَلِكَ ٱلْكِتَاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } *
{ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } *{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } * {أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}*
تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة: " ألف. لام. ميم ".
وردت في تفسيرها وجوه كثيرة. نختار منها وجها. إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله.
الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جواباً!
{ ذلك الكتاب لا ريب فيه ..}
ومن أين يكون ريب أو شك؛ ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع، ظاهرة في عجزهم عن صياغة مثله، من مثل هذه الأحرف المتداولة بينهم، المعروفة لهم من لغتهم؟
{ذلك الكتاب لا ريب فيه.. هدى للمتقين ..}
الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونوراً ودليلاً ناصحاً مبيناً؟.. للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب. هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك. هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب.
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم. بقلب خالص. ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقياً، خائفاً، حساساً، مهيأ للتلقي.. ورد أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى! قال:فما عملت؟ قال:شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى..
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:
{الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون}
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة. الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة.. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعاً، ولتهيمن على البشرية جميعاً، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة، شاملة للشعور والعمل، والإيمان والنظام.
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا..
{الذين يؤمنون بالغيب..} فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها هذا الوجود؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده.. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
{ويقيمون الصلاة..}فيتجهون بالعبادة لله وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء. يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد؛ والقلب الذي يسجد لله حقاً، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق.. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك.
{ومما رزقناهم ينفقون .. } فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق، والتضامن بين عيال الخالق، والشعور بالآصرة الإنسانية، وبالأخوة البشرية.. وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح، وتزكيتها بالبر. وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس، لا بين أظفار ومخالب ونيوب!
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة، وسائر ما ينفق في وجوه البر. وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه. وقد ورد في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناده لفاطمة بنت قيس" إن في المال حقاً سوى الزكاة " . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة.
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك..}وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة، وارثة العقائد السماوية، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان. وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية، ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة معبودها.. قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح.. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها. هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد. قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان، وهو ثابت مطرد، كالنجم الهادي في دياجير الظلام.
{وبالآخرة هم يوقنون.. }وهذه خاتمة السمات. الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة، والمبدأ بالمصير، والعمل بالجزاء؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملاً، وأنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره، ليطمئن قلبه، وتستقر بلابله، ويفيء إلى العمل الصالح، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف.
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود.
وكل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة الإنسانية، ومن ثم كانت هي صفات المتقين. وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعاً، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة. فالتقوى شعور في الضمير، وحالة في الوجدان، تنبثق منها اتجاهات وأعمال؛ وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره. وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكليّ الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول. ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها، وجعلها صلة بين العبد والرب. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً بجميل العطاء، وشعوراً بالإخاء. ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة. ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين.. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئاً عظيما. شيئاً عظيماً حقاً بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها. ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض، وفي حياة البشر جميعاً.
.ومن ثم كان هذا التقرير:
{أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون ..}
وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا. والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم.
الموضوعالأصلي : صفات المتقين // المصدر :