الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
السلام عليكم
سؤال : شيخي الفاضل
أنا شاب من (......) وخريج كلية الحقوق ولعلمكم فإن أغلب القوانين في بلدي
وضعية لا صلة لها بما أمر الله ورسوله إلا في قوانين المواريث وبعض العقود
.
فما حكم عملي لدى محامٍ كمساعد إداري أي يحضر ملفات القضايا وأحملها إلى
المحاكم لتوثيقها ؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد
فإنَّ هذا الموضوع من الموضوعات التي تنطلق من ثوابت عقدية ، وتحكمها أصول
فقهية عملية ، وهي مما عمّت به البلوى في التعاملات الواقعية ، ومن ثم ظهر
فيه الإشكال وكثر عنه السؤال .
وحيث إنَّ المسألة لها صور كثيرة ، والسائلون عنها من ذوي الثقافة
القانونية والفقهية ، فلعلّ من المستحسن أن ينطلق الجواب على السؤال من ذكر
الأصول والأحوال ، التي ينبغي النظر إليها في مثل هذه الحال وربط جزئيات
المسألة بها .
فأولاً : من المتقرِّر في العقيدة الإسلامية
: أنَّ الشرع الذي يجب تطبيقه في بلاد المسلمين وبين المسلمين في غير
بلادهم ، هو شريعة الله تعالى ، التي خدمها بيانا وتوضيحا وتفريعا العلماءُ
الربانيون من أهل الإسلام . وأنه لا يحلّ الحكم بقانون وضعي مخالف لشريعة
الله تعالى ؛ فلا يشرِّع للخلق إلا من خلقهم ، وهذا ما يجب أن يكون ( ألا
له الخلق والأمر ) . وهو أمر لا يستدعي الإطالة فيه لظهوره ولله الحمد
والمنّة ، وما هذا السؤال إلا فرع عن العلم به وصحة الاعتقاد فيه .
ومن ثمّ فإنَّ ما ابتليت به عامّة الشعوب المسلمة في حاضر العالم الإسلامي
اليوم وغيره ، من إلزامها بالتحاكم إلى قوانين مستوردة أو موضوعة على غير
هدى من الله ؛ إنَّما هو إلزام للأمة بغير شرع ربِّها ؛ وإن بقيت موضوعات
محدَّدة كقوانين الأحوال الشخصية التي أشرتَ إليها في سؤالك على ما قرّره
فقهاء الإسلام أو بعضهم ، فإنَّها لم تسلم أيضاً من امتداد القانون الوضعي
إليها ، بخلفياته الفكرية التغريبية المقيتة ، كإباحة اتخاذ الأخدان ، مع
منع التعدد ، وجعل الطلاق في يد المرأة ، ومناصفتها للرجل في ماله في بعض
بلاد المسلمين .
وثانياً : من المتقرِّر عند من يُسمّون
بالحقوقيين ، أنَّ مجال المحاماة ليس مقصوراً على الوكالة في الخصومة
ومساعدة الخصوم على تجهيز دفاعهم والترافع عنهم فحسب ؛ فمجالات المحاماة
بإجمالٍ تشمل : المشورة القانونية ، والنصيحة للرعية ، والصلح بين النَّاس
، ودفع مظالم السلطات العامّة ، والإنهاءات ، وصياغة العقود ، والمشاركة في
وضع مشروعات النظم واللوائح وسنّ القوانين ، والطعن في الأحكام الظالمة
لتصحيحها دستوريا ، وغير ذلك من المجالات المعروفة لدى أهل الشأن ، مما لا
يخفى على السائل وفقه الله .
ومع أنَّ الأصل في القوانين الوضعية منع وضعها ومنع إلزام الناّس بالتحاكم
إليها على ما تم تقريره في الفقرة السابقة ، إلا أنَّ القوانين الوضعية
العقلية ، لا تخلو من موافقة للشرع أو عدم مخالفة له ؛ وهذا يشمل ما كان
مصدره الشرع من حيث الأصل ، كقوانين الأحوال الشخصية ، أو كان الشرع مصدراً
له عند عدم النص ، أو لم ينظر عند تقنينه أو الحكم به إلى الشرع ، لكنه ليس
مخالفاً لحكم الشرع ، أو كان موافقاً لرأي فقهي سائغ ، جرى عليه العمل في
بلد من بلاد المسلمين ، أو كان مما يندرج تحت قاعدة شرعية توافق معها
القانون فيه ، كعدد من صور العقود التي تعتمد قاعدة القانونيين : ( العقد
شريعة المتعاقدين ) إذا كانت قد وقعت على صورة صحيحة شرعاً ، وهكذا بقية
فروع القانون لا تخلو من حق ، وإن اختلف ذلك من حيث القلة كما في القوانين
الجنائية والجزائية أو كثرة كما في القوانين المدنية و الإدارية .
وثالثاً : أنَّ كلَّ ما وافق شرع الله جلّ
وعلا فهو منه ، وكذلك كلّ ما لم يخالف شرع الله تعالى فهو منه ؛ فالمشروع
بالنصِّ أو موافقة التقعيد الإسلامي الصحيح ، لا يجوز نفي مشروعيته ، ولو
كان في صيغة قانون وضعي أو حكم وضعي ، وهذا من خصائص الشريعة الإسلامية
المنبثقة عن شمولها وسموها ومرونتها وصلاحها لكل عصر ومصر وحال ؛ فالقوانين
الوضعيـة ، منها ما يكون مندرجاً تحت ما يعرف بالسياسة العقلية ؛ وهي سياسة
لا تخلو من حق ، سواء كانت في صيغة تقنينٍ محرّرٍ لا يخالف قانون العدل
الإسلامي المتمثِّل في الشريعة الإسلامية ، أو كانت في شكلٍ منظّمٍ لا
تأباه أصول الشريعة وقواعدها ؛ وما كان كذلك ، فإنَّه مندرج في الشريعة ،
وإنْ حرّره أو تفوَّه به من ليس من أهلها ؛ فالسياسة العادلة من الشريعة ،
وإن صدرت من غير المسلمين ؛ فهي من جهة المشروعية معتبرة ؛ ومن ثم تكون
مجالاً قابلاً للإفادة منه فيما يحقق العدل الإسلامي .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " السياسة نوعان : سياسة ظالمة ، فالشريعة
تحرمها ؛ وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ؛ فهي من الشريعة ،
عَلِمَها من عَلِمَها وجَهِلَها من جَهِلَها " ( الطرق الحكمية : 5 ) . و
قال : " لا نقول : إن السياسة العادلة ليست مخالفة للشريعة الكاملة ، بل هي
جزء من أجزائها وباب من أبوابها ، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي ، وإلا فإذا
كانت عدلاً فهي من الشرع " ( إعلام الموقعين : 4/373 ) .
وعليه ؛ فإنَّ ما وافق الشريعة من القوانين الوضعية وكذلك ما لم يخالف
شريعة الله تعالى من نصوص أو قواعد فهو منها عند التحقيق ، لا ينبغي الوقوف
منه ذات الموقف مما خالف شريعة الله عز وجل ، وإن لم يكن مأخذه عند واضعه
مأخذاً شرعياً ؛ وعليه فإنَّ للمحامي ومن يعاونه : أن ينوب في الخصومة
ويعمل في غيرها من أعمال المحاماة التي لا مخالفة فيها للشرع ، وإن كان
موضوع الخصومة مقنناً بمعزل عن مراعاة موافقته للشريعة أو عدم مخالفته لها
- ما دام أن المضمون لا يخالف الشرع .
ورابعاً : أنَّ التنازع بين النَّاس أمر واقع
لا محالة ، ولم يخل منه عصر أو مصر ، ولو تَرك أهل الحقوق حقوقهم للظلمة أو
الجهلة ؛ عجزاً عن استيفائها أو استردادها ، لوقع الناس في هرج ومرج . ومن
ثم فلا بد من فصلٍ في التنازع ؛ فيلجأ الناس ضرورة للتحاكم إلى القوانين
الوضعية ، إذا لم يكن لهم خيار لهم سواها . فكان النّاس ما بين طالب يدّعي
إليها أو مطلوب يُدّعى عليه أمامها .
ولا شكّ أنَّ وجود حكم ما ، يحفظ قدراً من العدالة ويرد لهم حقوقهم أو
بعضها ، أقلُّ ضرراً على النّاس من بقائهم فوضى دون حكم .
ومن ثمّ فلا حرج على المحامي المسلم المستقيم ، أن يستلم قضية خصومة لا
يعرف مدى مشروعيتها بداية ، ولا حرج على غيره في إعانته على ذلك ، بشرط أن
يتوقف عملهما فيها على نتيجة دراستها ، فإذا تبيّنت حقيقتها ؛ فإن كانت
مشروعة لزمه المضي في القضية إن كانت بعوضٍ ، وإن كانت غير مشروعة توقف عند
نتيجة دراستها ، وحرم عليه وعلى معاونيه المضي فيها مع علمهم أنَّها مبطلة
، ويحق له أن يتقاضى عوضاً عن دراسة القضية فقط إذا اقتضاه العرف أو اشترطه
.
وخامساً : أنَّ من عمل في وظيفة فيها ظلم من
أجل رفع الظلم أو تخفيفه عن النّاس ، فلا حرج عليه ، ولو اقتضى منه ذلك
إبقاء شيء من الظلم الأخف ، ما دام قصده دفع الظلم الأشد ولا طريق إلى
تخفيفه إلا بذلك ؛ لأنَّه حينئذٍ يكون معيناً للمظلوم على رفع الظلم أو
تخفيفه عنه ، وليس معيناً للظالم على ظلمه .
وهذه من أعظم قواعد السياسة الشرعية التي حرّرها المحققون من علماء الإسلام
، ومنهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله إذ يقرِّر أنَّ : " المعين على
الإثم والعدوان ، من أعان الظالم على ظلمه . أمّا من أعان المظلوم على
تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلمة ، فهو وكيل المظلوم ، لا وكيل
الظالم " ( التعليق على السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية [ المتن ]
: 149 ) . وهي قاعدة شرعية من دقائق الاستنباط من قواعد المقاصد ، وهي
مقتضى العقل الصحيح ، ولذلك يرتضي المظلومُ وقوع هذا التصرف ويشكر فاعله
متنازلا عن مطالبته بشيء مما نقصه ، لكونه قد أحسن إليه بإعانته في استرداد
بعض حقه .
ومن رحمة الله بخلقه أنَّ لصاحب الحق أن يأخذ حقَّه ، ولو بالظفر به ، كما
أنَّ له أن يأخذ بعض حقه إن لم يستطع أخذه كلّه ، وهذا الحق قد يكون أمراً
يطلبه من غيره ، أو آخر يدفعه عن نفسه .
وسادساً : أنَّ حكم المحاماة والإعانة عليها
يتعلق بأمرين رأيسين : أولهما : مشروعية موضوع المحاماة أو عدمها .
وثانيهما : مشروعية الحكم المنتظر فيه أو عدمها . وهذان الأمران يتطلبان
فقهاً شرعياً بالواقعة . فإذا وجد ذلك فلا حرج في امتهان المحاماة أو
الإعانة عليها فيما لا محظور فيه .
فإذا كان موضوع المحاماة أو الخصومة مشروعاً ، كطلب استيفاء حقٍ مالي مشروع
أو دفع دعوى باطلة ، فلا حرج في امتهان المحاماة فيها ، وقد يؤجر على ذلك
إذا كان صاحب الحق ضعيفا لا يقدر على الدفاع عن نفسه أو تحصيل حق ، ومما
يدل لذلك قول الله عز وجل : ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْل ) ، و مفهوم قول الله عز وجل : ( وَلا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) ، إذ يفيد أن الخصومة لغير الخائنين ليست محلاً
للنهي ، وما ليس محلّ نهي فهو جائز ، كما أنَّ الأصل في الشريعة الإسلامية
: جواز التعاون على ما كان برَّاً ، ، كما في قول الله سبحانه : (
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) وردّ الحقوق إلى أصحابها ،
ودفع الظلم عن المظلومين مجال من مجالات البرّ والتقوى لمن أخلص وعلم فعمل
.
وإن كان موضوع المحاماة والخصومة غير مشروع ، كالمطالبة بفوائد ربوية ، أو
توثيق عقارٍ مغتصبٍ ، وصياغة عقد استيراد بضائع محرّمة شرعاً ، أو كانت
البيِّنات والحجج باطلة ، أو الوثائق المستند إليها مزورة ، لم يجز له
المضي فيها ؛ لجملة من الأدلة ، منها قول الله عز وجل : ( وَلا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) ، والأصل في الشريعة الإسلامية : منع التعاون
على ما كان إثماً ، كما في قول الله عز وجل : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ) .
وسابعاً : أنَّ مشروعية إقامة العدل في
الجملة ، لا تتوقف على وجود حكم إسلامي المضمون والإجراء ، ولا العيش في
ظله بالضرورة ؛ فإنَّ العدالة حق مستَحَق ؛ فالترافع أمام المحاكم التي
تحكم بالقوانين الوضعية لأخذ الحق ودفع الظلم في المجتمعات الإسلامية
وغيرها ، أمر لا حرج فيه على المظلوم ولا على المحامي الذي ينوب عنه في دفع
الظلم ؛ لأنَّه لا سبيل له إلى تحصيل حقِّه إلا بذلك ، وإنما الإثم والوزر
على من قرّر الحكم بالقوانين الوضعية ، وألزم الناس بالحكم بها والتحاكم
إليها ، وعلى من استند إلى تلك القوانين في إقرار ظلم أو دفعٍ عن مبطِل .
كما أنَّ مجالات المحاماة مجالات واسعة ، ومنافذ إصلاح سلميّ شرعي متقدِّمة
، ومنها ما قد يرقى إلى درجة الوجوب على من تعيّن عليه التغيير برؤية
المنكر وقدرته على تغييره بالوسائل المتاحة . وكون المحاماة وسيلة تغيير
سلمي فاعلة ، أمر تفطن له أعداؤنا من اليهود ، وأكّدوا أهميته ونصّوا على
ذلك فيما يعرف ببروتوكولات حكماء صهيون !
والواقع يؤكِّده ، فالمحامي حين يصوغ عقداً من العقود صياغة شرعية ، مفيداً
من قاعدة القانون في العقود ( العقد شريعة المتعاقدين ) فإنَّه يساهم في
تصحيح عقود النَّاس وتوجيههم للصيغ المشروعة ، وتحذيرهم من غيرها ، فلا
يعقد إلا عقدا مشروعا ، ولا يصوغ إلا صياغة شرعية ، وإذا ما وقعت خصومة فيه
كان مدافعا عن عقد مشروع .
وكذلك ما نلمسه من أثر قوي للمحامين الأمناء في المساهمة في إلغاء أو تعديل
بعض القوانين الجائرة ، وفي نصرة المظلومين من المستضعفين ، وفي تحقيق
مطالب شعبية إسلامية بطرق سلمية باقية نافعة .
ومن ثمّ فقد يكون في ترك هذه المهنة من أهل العلم بها والخير والصلاح ، ترك
لمجال تعيّن عليهم الإصلاح فيه و به ، فرادى كانوا أو جماعات من خلال
نقابات المحامين مثلا ، ولا سيما أنَّ رفع المظالم عن النّاس يتطلب وجود
محامين أمناء على علم بالشرع ودراية بالواقع .
وخلاصة القول : أنَّ حكم عملك لدى محامٍ
كمساعد إداري ، يحضِّر ملفات القضايا ويحملها إلى المحاكم لتوثيقها ، يرتبط
بحكم ما تحضِّره وتوثّقه ؛ فإن كان مشروعاً في الشريعة الإسلامية فعملك
مشروع ، وإن كان ما تحضِّره وتوثّقه مما ليس مشروعاً في الشريعة الإسلامية
، وسعيك فيه يقرِّر مشروعيته ، فإنَّه لا يجوز لك العمل فيه ، وإن كان
صحيحاً من الناحية القانونية .
وليكن معيار عملك قول الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، وقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) .
ولعلّ مما يعينك على ذلك العمل مع محامٍ أمين صالح ، ذي علم بالشريعة
ومراعاة لأحكامها إن وجد ، أو مع ذي فقه بالقوة ، أي قادرٍ على بحث ما يشكل
عليه شرعيته من المسائل ، أو أن تتعاقد مع من تعمل معه على أنواع معينة من
الأعمال والقضايا التي لا يتعارض العمل فيها مع الشريعة الإسلامية .
وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه .
هذا ما تيسر بيانه ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله .
المصدر
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الموضوعالأصلي : حكم المحاماة في الإسلام // المصدر :